ذرائع أمنية تخفي نوايا استراتيجية.. ما وراء توسّع إسرائيل في غزة؟

وسّعت إسرائيل بشكل كبير وجودها في غزة منذ استئناف الحرب على القطاع في مارس الماضي، حيث باتت تسيطر على أكثر من 50% من أراضيه، مما يدفع الفلسطينيين للتكدس في مناطق ضيقة تتقلص يومًا بعد يوم.
وتضاعف حجم المنطقة العسكرية العازلة في الأسابيع الأخيرة، حيث دمّرت قوات الاحتلال منازل الفلسطينيين وأراضيهم الزراعية والبنية التحتية بشكل جعلها غير صالحة للسكن.
ذرائع أمنية وأهداف استراتيجية
ورغم أن إسرائيل تصف قبضتها المشددة على الأرض بأنها ضرورة مؤقتة، فإن خبراء يرون أن هذه السيطرة قد تُستغل لترسيخ هيمنة طويلة الأمد، خصوصًا مع شق ممر يفصل شمال القطاع عن جنوبه.
والأسبوع الماضي، صرّح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بأنه حتى بعد هزيمة حركة حماس، ستحتفظ إسرائيل بسيطرة أمنية في غزة، وستدفع الفلسطينيين إلى مغادرة وطنهم.
ويواجه سكان غزة أوضاعًا إنسانية كارثية مع استمرار الغارات الإسرائيلية المكثفة في جميع أنحاء القطاع، وإجراءات الإخلاء القسرية، وسط غياب أي أفق لحل قريب للأزمة.
تقطيع غزة إلى أجزاء
وفي الأيام الأولى من الحرب، أجبر جيش الاحتلال الفلسطينيين على مغادرة المناطق القريبة من الحدود ودمر الأراضي لإنشاء منطقة عازلة يبلغ عمقها أكثر من كيلومتر واحد.
كما استولى جيش الاحتلال على مساحة من الأرض في قطاع غزة تعرف باسم ممر نتساريم الذي أقامه مطلع نوفمبر 2023 ليعزل محافظتي غزة والشمال عن مناطق وسط وجنوب القطاع.
ويمتد ممر نتساريم من أقصى الحدود الشرقية لقطاع غزة وصولًا إلى شاطئ البحر غربًا، ويتقاطع مع شارع صلاح الدين الرئيسي، قبل أن ينسحب الجيش منه في فبراير 2025، في إطار المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، الذي تنصلت منه إسرائيل لاحقًا.
وكانت إعادة فتح الممر والسماح للفلسطينيين بالانتقال من جنوب ووسط القطاع إلى شماله بندًا أساسيًّا في اتفاق تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار المبرم بين إسرائيل وحماس، وانتهكته تل أبيب مرارًا قبل أن تنقلب عليه وتستأنف حربها في 18 مارس الماضي.
تعميق المنطقة العازلة
ومع استئناف الحرب، تضاعف عمق المنطقة العازلة لتصل إلى ثلاثة كيلومترات داخل غزة في بعض المناطق، وفق خريطة أصدرها جيش الاحتلال.
وتشكل المنطقة العازلة وممر نتساريم ما لا يقل عن نصف مساحة غزة، كانت في السابق تضم مئات آلاف الفلسطينيين، وتشكل مصدرًا رئيسيًا للإنتاج الزراعي في القطاع.
دمار شامل
وتُظهر صور الأقمار الصناعية أحياء كانت مكتظة بالسكان في السابق تحوّلت إلى أنقاض، فضلًا عن ما يقرب من 12 موقعًا عسكريًا جديدًا لجيش الاحتلال منذ انتهاء وقف إطلاق النار في غزة.
وأعلن نتنياهو الأسبوع الماضي، أن إسرائيل تنوي إنشاء ممرّ آخر يشقّ جنوب غزة، قاطعًا مدينة رفح عن باقي القطاع.
وتزداد سيطرة إسرائيل على غزة اتساعًا إذا ما أخذنا في الاعتبار المناطق التي أمر جيش الاحتلال المدنيين بإخلائها مؤخرًا تحسبًا لهجمات مُخطط لها.
سيطرة طويلة الأمد؟
وفي حين لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت إسرائيل تنوي الاحتفاظ بهذه المناطق بشكل دائم، يزعم جيش الاحتلال أن الغرض من المنطقة العازلة ليس احتلال غزة، بل تأمينها حتى يتم تفكيك حماس.
ولكن المحلل السياسي مصطفى إبراهيم قال إن جيش الاحتلال من خلال التدمير المتعمد على نطاق واسع والتمدد المنهجي للمنطقة العازلة المستمر منذ اندلاع الحرب قبل 18 شهرًا، وضع الأساس للسيطرة الإسرائيلية المستقبلية على المنطقة.
تهجير قسري وتغيير ديموغرافي
وأكد إبراهيم لـ"تفصيلة" أن الحرب الإسرائيلية تستهدف إحداث تغيير ديمغرافي طويل الأمد، موضحًا أن التغيير يتم عبر دفع الفلسطينيين إلى الهجرة القسرية وتقليص عددهم بالقطاع.
وأضاف أن هذا التهجير ليس مجرد نزوح مؤقت، بل محاولة لتغيير التركيبة السكانية للقطاع، وتحقيق أهداف سياسية.
ونوه إبراهيم بأن لدى إسرائيل مخاوف ديموغرافية من التزايد المستمر في عدد السكان الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، حيث يتجاوز عددهم 7 ملايين نسمة.
سياسات تعود إلى 1948
وتابع أن هذا الوضع يشكل تحديًّا للتركيبة السكانية التي تسعى إسرائيل للحفاظ عليها، لذلك بدأت بتنفيذ خطط قديمة وسياسات تهجير وإحلال تعود إلى عام 1948، بهدف السيطرة على أكبر قدر ممكن من الأراضي الفلسطينية.
وأوضح المحلل السياسي أن إسرائيل تنفذ ذلك عبر تدمير حياة الفلسطينيين، ودفعهم إلى الهجرة قسرا وطوعا، بعد تحويل حياتهم اليومية إلى جحيم، وإيجاد أزمات عديدة تدفعهم إلى البحث عن بدائل.
وفي 4 مارس الجاري، اعتمدت قمة عربية طارئة بشأن فلسطين خطة لإعادة إعمار غزة دون تهجير الفلسطينيين منها، على أن يستغرق تنفيذها خمس سنوات، وتكلف نحو 53 مليار دولار.
لكن إسرائيل والولايات المتحدة رفضتا الخطة وتمسكتا بمخطط يروج له الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لتهجير الفلسطينيين من غزة إلى دول مجاورة مثل مصر والأردن، وهو ما رفضه البلدان، وانضمت إليهما دول عربية أخرى ومنظمات إقليمية ودولية.
وفي وقت سابق، صدق المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر (الكابينت) على إنشاء إدارة لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة.
كارثة إنسانية مستمرة
وشدد إبراهيم على أن الوقف الفوري للحرب، وفتح المعابر، وتوفير المساعدات، وإعادة إعمار غزة، ليست مجرد رغبات، بل ضرورة إنسانية لإنقاذ حياة السكان، وإعادة بناء ما دمرته الحرب، وتعزيز صمود الفلسطينيين في قطاع غزة ضد سياسات التهجير.
وفي الأول من مارس، انتهت المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ في 19 يناير الماضي بوساطة مصرية قطرية ودعم أمريكي، وتنصل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، من بدء مرحلته الثانية استجابة للمتطرفين في ائتلافه الحاكم.
وسعى نتنياهو - المطلوب للعدالة الدولية - لإطلاق سراح مزيد من الأسرى الإسرائيليين في غزة دون تنفيذ التزامات المرحلة الثانية، ولا سيما إنهاء الحرب والانسحاب من القطاع بشكل كامل، بينما تمسكت حماس ببدء المرحلة الثانية.
ومنذ استئناف إسرائيل الحرب في غزة في 18 مارس، استشهد 1449 فلسطينيًّا وأصيب 3647 آخرين، معظمهم أطفال ونساء، وفق أرقام وزارة الصحة بالقطاع التي تعتبرها الأمم المتحدة موثوقة.
وبدعم أمريكي مطلق ترتكب إسرائيل منذ 7 أكتوبر 2023 إبادة جماعية في غزة خلفت أكثر من 166 ألف شهيد وجريح من الفلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 11 ألف مفقود تحت الأنقاض.
وتحاصر إسرائيل قطاع غزة منذ 18 عامًا، وبات نحو 1.5 مليون من مواطنيه، البالغ عددهم حوالي 2.4 مليون فلسطيني، بلا مأوى بعد أن دمرت حرب الإبادة مساكنهم.